عمل بأجر قليل أفضل أم عدمه أفضل ؟
السير إلى المنزل أكثر توفيراً أم ركوب المواصلات ؟
السير بجوارالحائط أكثر أماناً أم العمل السياسي ؟
انتظاره حتى يُكمل ثمن الشقة أفضل أم رؤية قطار أمنية الزواج وهو يغادر محطتي ؟
حضور الاجتماع أم رفض الحضور ؟
" يعني الراجل مستني شوية عيال زيّكم عشان يعرّفوه يعمل ايه وما يعملش ايه ؟!! ده بسم الله ما شاء الله عارف كل سنتيمتر فكل حاجة وكل مشكلة .. خشي أوضتك وبلاش هيافة .. قال مطالب قال .. كحححححححح كحححححححح "
كان هذا أبي .. موظف على المعاش مؤمن بأن الاستقرار كنز لا يفني ويمكن استحداثه من العدم وأننا يجب أن نترك الامور تسير كما هي لأن أي تدخل طفيف قد يفسد كل شيء ..
" يا بنتي إجتماع أيه بس ؟ انتي عايزة يتقبض عليكي أنتي واللي رايحين ؟ فيه حد يروح للنار برجليه ؟ هو احنا ناقصين مش كفاية أخوكي اللي طلّعناه بالعافية من القسم لما اتمسك في مظاهرات الجامعة .. يا بنتي احنا ما صدقنا انك اتخطبتي وبطلتي السياسة ووجع الدماغ ده "
تعتقد أمي – بل هي متأكدة – أن هذا الاجتماع ما هو الا كمين مُعد لنا وأن الملاحقة الأمنية ستكون مصير من يحضره هذا إذا لم يتم القبض عليه عند خروجه من باب منزله ، أما أخي الذي ذكرته أمي فهو ليس ناشطاً سياسياً كما تصورتم وأقصى ما يعلمه عن السياسة هو (سايس الحاج والحاجة وخدهم على قد عقلهم) ولا يشغله من يحكم ولا من تم عزله أو تنحى وموضع القبض عليه كان بالخطأ أثناء تواجده بالصدفة في موقع التظاهرات ..
" سيبيها يا حاجّة تعمل اللي هي عايزاه ما هو المحروس خطيبها أكيد عاجبه اللي هي بتعمله ما هو معرفة الزفت السياسة .. الله يلعن ده ابو يوم اللي وافقت عليه فيه "
*********
" طبعاً مش موافق إنك تحضري .. انتي اتجننتي ؟!!! بعد كمية الاستبداد والظلم اللي شايفاها دي عايزة تروحي الاجتماع ده ؟!!! .. اجتماع ايه ومطالب ايه وعلى انه أرضية ؟ هو انتي بتستغلي اني مش قادر احط عيني فعين ابوكي وأقعد معاه وأشتكيله من اللي انتي عايزة تعمليه في إنك تحطيني قدام الأمر الواقع ؟ بذمتك إحنا فأيه ولا فأيه ؟ مش كفاية أني مستحمل فكرة إن أبوكي بيقول عني كلام زيّ الزفت ؟ "
خِطبة استمرت ثلاث سنوات ومر على موعد إيجاد منزل الزوجية حوالي ستة أشهر .. عمل بأجر زهيد لا يناسب شهادته الجامعية وإن كان كافي لإيجاد المنزل فقد لا يكفي لتجهيزه ولكني يجب أن أحتمل ..
" انا تعبت منك بجد .. أنتي ليه بتزوديها عليا ؟ كفاية اللي انا فيه "
هل أخبره عن عدم قدرتي أنا على الاحتمال ؟ هل أخبره عن الضغوط التي أتعرض لها من أهلي ؟
" مش احنا قولنا يا بنت الحلال نبطل حوار السياسة ده ونركز فحالنا ؟ وبعدين انتي مش قولتيلي انك هتبدأي تلبسي الحجاب ؟ أهلي مش عاجبهم انك لحد دلوقتي مالبستهوش .. انتي عايزة الناس يقولوا عني ايه ؟ "
وهل عرفني وأنا مرتدية للحجاب ؟ هل ارتديت الحجاب وخلعته بعدها ؟ هل خدعته واخبرته انني سأرتديه ولم أفعل ؟ ماذا عن وعده لي في بداية ارتباطنا بأنه لن يجبرني على ارتداءه وأن الامر بالاقناع ؟
" من الآخر يا أنا يا حضورك الاجتماع ده .. لو روحتي يبقا انتي بتحكمي على اللي بينا بالنهاية "
هو لا يدرك أنني سأذهب من أجلنا . من أجل ملاحقة محاولة ضئيلة النتائج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مجتمع لم يعد يفيد فيه أي اجتهاد ..
*****************
وجوه كثيرة لشباب لم أعرفهم من قبل مجتمعين في صالة الاستقبال منهم الجالس ومنهم من يقف متحاوراً مع غيره بهدوء ، أما عن التفتيش الدقيق قبل الدخول فحدث ولا حرج .
اتجهت نحو مقعد شاغر بجوار احد الفتيات المتواجدات لأجلس ، ابتسمت لي من تجلس على يساري وهي تمد يدها لي ..
- " هاي .. انا نسرين من حركة (..........) .. انتي تبع أي كيان سياسي ؟ "
- " كنت .. دلوقتي لأ ، تفتكري هينفذوا أي إقتراح من اللي احنا هنقدمه ؟"
- " بصراحة مش فارقة كتير معايا .. أهم حاجة انه بإجتماعه ده معانا انه بيعترف بحركة زي الحركة اللي انا فيها وده أهم حاجة بالنسبالي "
- " ده اهم حاجة بالنسبالك ؟ !! "
عدّلت من جلستها وقالت :
- " سميها ميكافيلية سميها استغلال .. بس ده مكسب مهم بالنسبالي "
في هذه اللحظة دلف إلى صالة الاستقبال شخص طلب منا التوجه الى قاعة الاجتماع لتنظيم أدوارنا في الحديث وكان دوري في الحديث والجلوس هو الثالث بعد شاب طويل القامة يبدو على مظهره التوتر ربما لعلمه بأنه اول المتحدثين وبعد تلك الفتاة التابعة لحركة (.......) التي تحدثت معها .
بعد حوالي نصف الساعة أتى صوت من باب القاعة ينبه الحضور بوصوله ..
وما إن رأيناه آتياً نحونا حتى وقفنا إلى أن جلس هو مشيرا بيده إلينا أن أجلسوا راسماً ابتساماته الشهيرة على وجهه والتي لا تعلم كنهها .. أهي ابتسامة سعادة بوجودنا أم بالحدث نفسه أم مجرد ابتسامة للإعلام الحاضر ؟
بدأ في الحديث وأسترسل ناظراً إلى كل فرد منا لإشعارنا بالحميمية وما إن أنتهى وخرج الصحفيين والاعلاميين حتى بدأ أول الحاضرين بالحديث ، ومن فضلك لا تطلب مني تذكر ما قاله لأنني كنت في عالم آخر هو عالم الترقب الذي يبعد عن عالم الواقع آلاف السنوات الضوئية ولكن يبدو أن كلامه كان يحمل مضموناً هاماً نظرا لتعبيرات وجه الحاضرين .
بعده بدأت (نسرين) تتحدث عن ضرورة دعم الدولة للحركات السياسية بسبب قدرة تلك الحركات على استقطاب الشباب بشكل كبير .. الخلاصة كان حديثها عسل ممزوج بالسم .
وجاء دوري ..
نَفس عميق .. هدوء .. أعرّفه بنفسي .. وبدأت في الحديث ..
" عندما طالب الشعب بإسقاط النظام لم يكن القصد من ذلك رحيل الرئيس فقط ، فكان القصد رحيل الفساد والسرقة والنهب والإفقار والذل والاستعباد .. فرحل الرئيس وبقا النظام بكامل ملامحه ، فكيف نسقط هذا النظام ؟
هناك أمران أرغب في توضيحهما .. بالنسبة للفساد والتجاوزات داخل مؤسسات الدولة ووزاراتها المختلفة فإن أجهزة الرقابة عليها تلاشت قدراتها على مكافحة الفساد داخلها ، أما عن التجاوزات داخل أقسام الشرطة ففي زيادة فعلية وما لم ينشر عنها أكثر مما تم نشره ، وعلى الجانب الآخر لدينا من خريجي الكليات الكثير من الشباب الذي لم يجد عملاً بشهادته التي أنفق عليها هو وأهله الكثير ليتخرج من كلّيته ليصبح عامل أو موظف في تخصص ليس تخصصه كما أن هذا العمل لا يمنحه إلا القليل جداً والذي لا يكفي مصروفاته وبالتالي لا يكفيه إن قرر الزواج ، فبدلاً من أن يكون السبيل لحل مشكلات الشباب هو عربة خضار أو كُشك للخردوات فيمكن تكوين منظومة رقابية على المؤسسات بهم ، فخريجي الحقوق يتم تدريبهم ليصبحوا مراقبين حقوقيين بأقسام الشرطة وخريجي التجارة يتم تدريبهم ليكونوا رقباء في الاجهزة الادارية للدولة وهكذا .. "
قاطعتني المدعوة (نسرين) دوناً عن غيرها وبشكل غير متوقع قائلة :
- " وأيه الفرق ما بين اللي في المنظومات الرقابية حالياً وبين اللي هيتم تعينهم ؟ ما الاتنين هيبقوا نفس التخصصات العلمية بالعكس القُدام عندهم خبرة مكتسبة أخدوها بعد سنين كتير فهتقارني ذوي الخبرة بحديثي العهد بالعمل الرقابي ؟ "
تنهدت وكأنني لم أسمعها واستكملت حديثي :
" أنني أتحدث عن منظومة جديدة نقية من الشباب لم يشوبها الفساد ولا التغاضي ولا الرشاوى .. أنني أتحدث عن تمكين الشباب الذي لم يكف المسئوليين عن التغني به منذ الثورة وحتى الآن ولكننا لم نرى سوى بعض الحالات كان الهدف منها إعلاميا فقط ..
نحن كشباب من الجنسين لم يتركنا داء اجتماعي أو إقتصادي أو سياسي إلا وأصابنا .. أصابنا الفشل والاحباط والعنوسة والبطالة والقهر والبطش .. ولم يبقا لنا سوى بعض الأحلام التي قاربت على التآكل ، فهل هناك فرصة أخيرة لننقذ ما تبقى لنا من أحلام ؟ "
(انتظروا الحلم القادم)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق